رسالة مكتوبة قبل 15 عامًا

الأحدث

6/recent/ticker-posts

رسالة مكتوبة قبل 15 عامًا

 

 


 

 

 

 

 

 

 تعثر فجأة في معركة البحث من يفهم صمتك،  عن شخص يقاسمك ما يجول ويتصكّعُ في خاطرك باحثاً عن كُوّة تحرّر من الطمث الغامر لجرأتك، وحتى إن كان في استطاعتك الكتابة، تجده، هو، أمهر منك في التعبير عن ما وددت قوله علانية للجميع، فلا تجد حرج "الأنا" مانعاً في أن تنسُّخ ما كتبه لأنك منه وله بيّان مُستبان..
الذاكرة أهم من  الذكرى
«دون اكتراث بغرابة الأمر، اختار قادة الدكتاتورية العسكرية في الأوروجواي، أن يطلقوا على السجن الرئيسي للبلاد اسم «حرية»، وفي ذلك السجن المسمّى «حرية»، حظروا على المساجين أن يرسموا أو يتلقوا رسوما لفراشات أو نجوم أو أزواج أو طيور، أحد السجناء وهو معلم مدرسة اسمه «ديداثكو بيري»، كان قد تم اعتقاله لأن «لديه أفكارا أيديولوجية خطيرة»، تلقى ذات يومِ أحد زيارة من ابنته «ميلاي» البالغة من العمر خمس سنوات، التي أحضرت معها لوحة رسمتها مؤخرًا، لكن رسمها تعرض للمنع لأنه كان يحتوي على عصافير، وقامت رقابة السجن بتمزيق لوحتها على مدخل السجن.
في الأحد التالي، أحضرت «ميلاي» رسمًا لا يحتوي إلا على أشجار، وبما أن الأشجار لم تكن محظورة، سمح الحرس بدخول الرسم إلى السجن هذه المرة، وعندما رآه الأب سأل ابنته: هذه الفاكهة الملونة الموجودة على الشجر ما هي؟ برتقال أم ليمون أم تفاح، ما هي؟ وابنته حاولت أن تسكته، وبعد أن تلفتت حولها قالت له: ألا ترى يا بابا أنها عيون؟ إنها عيون الطيور التي أحضرتها لك، مختبئة بين الأشجار».
كانت هذه واحدة من آلاف الوقائع التي قام كاتب الأوروجواي الكبير «إدواردو جاليانو» بتوثيقها في كتبه، التي اختار أن يستخدم فيها جميعا شكل الحكايات القصيرة، لكي يحفظ ذاكرة أمريكا اللاتينية، ويوثق التاريخ الشعبي لكفاحها المرير ضد الاحتلال ثم الاستبداد، ويوثق أيضًا عدم توقفها عن إنتاج البهجة والدهشة والمعرفة، وقد كان من حسن حظ القارئ العربي أن تصل إليه بعض كتب «جاليانو»، بجهد رائع للمترجم الكبير صالح علماني، ثم المترجم الكبير أسامة إسبر، كان من بينها «أفواه الزمن ـ كتاب المعانقات ـ كلمات متجولة ـ مرايا أو ما يشبه تاريخا للعالم ـ أبناء الأيام أو تقويم للتاريخ البشري ـ كرة القدم بين الشمس والظل»، بالإضافة إلى أهم هذه الكتب وهو ثلاثية «ذاكرة النار» التي تتكون من ثلاثة أجزاء: «سفر التكوين ـ الوجوه والأقنعة ـ قرن الريح»، وهو عمل ضخم وملهم، يتفوق في أهميته وجماله على عملٍ أشهر كَتَبه «جاليانو»، وصدر سنة 1973، هو كتاب «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية»ـ ترجمه عام 98 القديران أحمد حسان وبشير السباعي ـ وقد تضاعفت شهرته حين قام «هوجو شافيز» عام 2008 بإهدائه إلى باراك أوباما خلال قمة لرؤساء الأمريكتين، لتذكيره بما وثقه «جاليانو» في الكتاب من جرائم الإدارات الأمريكية المتعاقبة في حق شعوب أمريكا اللاتينية، بدعمها للحكومات العسكرية المتواطئة معها على نهب ثروات القارة، وبتآمرها على إسقاط الحكومات المناوئة للمصالح الأمريكية.
وبرغم أهمية ما بكتاب «الشرايين المفتوحة» من معلومات قيمة، وكونه سباقا في كتابة «التاريخ الشعبي» التي قدم فيها بعد ذلك المؤرخ الأمريكي «هوارد زن» كتابا شديد الأهمية، إلا أن «جاليانو» لم يكن يخفي عدم رضاه عن أسلوب الكتاب، وكان يتمنى كثيرًا لو أتيحت له إعادة كتابته من جديد، وهو ما ستتفهمه حين تقرأ ثلاثية «ذاكرة النار» وما تلاها من كتب. ظل «جاليانو» يطور فيها قدرته على الجمع بين التوثيق والإمتاع، في نفس الوقت الذي قام فيه بتوسيع زاوية رؤيته لتشمل العالم كله، فتصبح كتبه حارسة لذاكرة المقهورين في العالم أجمع، وليكون لمقهوري عالمنا العربي فيها نصيب لم يتوفر لهم، في الكثير من كتب التاريخ الرسمية المحشوة بأكاذيب يتواصل فرضها على الأجيال المتعاقبة.
كانت «حصص التاريخ الكئيبة» هي التي ألهمت «جاليانو»، فكرة صنع تاريخ مضاد يقاوم ذلك «الماضي الميت الأجوف الأخرس الذي علمونا عنه بطريقة جعلتنا نستكين للحاضر بضمائر جافة، لنقبل التاريخ الذي صُنع سابقا. لقد توقف التاريخ المسكين عن التنفس، تمت خيانته في النصوص الأكاديمية، كُذِب عليه في المدارس، أُغرق بالتواريخ، سجنوه في المتاحف ودفنوه تحت أكاليل الزهر ووراء تماثيل برونزية ورخام تذكاري». وحين حررت فضيلة الشك «جاليانو» في شبابه من سطوة ذلك التاريخ المكذوب، فاكتشف أن التاريخ الرسمي لأمريكا اللاتينية «يقتصر على استعراض عسكري لطغاة يرتدون بدلات عسكرية لم تستخدم من قبل»، قرر أن «يساهم في إنقاذ الذاكرة المخطوفة لأرضه المُحتقرة والمحبوبة، وأن يتحدث معها ويتقاسم معها أسرارها»، ولولا أنه فعل، لظلت أمريكا اللاتينية بالنسبة لنا مرتبطة فحسب بالواقعية السحرية التي أبدعها أدباؤها، قبل أن نكتشف من خلال كتبه، أن واقعها الفعلي، كان أشد عبثا ودموية ومرارة، تمامًا مثل واقعنا العربي، الذي لا زال ينتظر من أبنائه استلهام تجربة «جاليانو»، فيستبسلوا في تحرير ذاكرته المخطوفة من سطوة التاريخ الرسمي المكذوب.
هل يوجد بيننا الآن «آبيل دي ألينكار» لا نعرفه؟
لم أنسَ اسم الرجل منذ أن قرأت لـ«جاليانو»، وهو يروي كيف كان ذلك الموظف البرازيلي البسيط يختبئ كل ليلة على مدى ثلاث سنوات داخل مقر عمله بجهاز الأمن العسكري بالعاصمة برازيليا، ليستنسخ أوراقا من ملفات سرية من أرشيف الجهاز، «تسمي عمليات التعذيب تحقيقا، والاغتيالات مواجهات مسلحة»، لينجح في نسخ مليون صفحة، أصبحت تشكل بعد سنين أخطر سجل توثيق للدكتاتورية التي لم يكن الكثيرون يعلمون أن قوتها وسطوتها تخفي خلفها بداية الانهيار.
خلال روايته لتلك البطولة الفردية المدهشة، يروي «جاليانو» أن «آبيل» خلال بحثه بين الوثائق اكتشف وجود رسالة مكتوبة قبل 15 عامًا، مختومة بقُبلة من شفتَي امرأة، وكان بقاؤها في الأدراج يعني أنها لم تصل إلى من كان ينبغي أن تصله، ليكتشف بعد ذلك مئات الرسائل التي لم تصل لأصحابها الذين أصبح مصيرهم مجهولا، ومع ذلك فقد قرر «آبيل» ألا يغتال تلك الرسائل بتمزيقها أو إعادتها إلى سجن الملفات، فكان يقوم في نهاية كل ليلة بإلصاق طوابع جديدة على الرسائل ويلقي بها في صندوق البريد، لعلها تصل إلى أصحاب النصيب، ومع أن «جاليانو» لا يروي لنا ما حدث للرسائل، ربما لأن أحدا لا يعرف ذلك المصير، لكننا على الأقل نعرف مصير ما قام «آبيل»، الذي لم يذهب جهده البطولي هباءً، بدليل ما حدث مؤخرا من خطوات حاسمة لتقديم المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان إلى العدالة، حتى وإن كانوا قد بلغوا من العمر عتيًّا، أو حتى فارقوا الحياة.
ذكّرتني قصة «آبيل» المدهشة، بمقال مهم كتبه الأمريكي «إيريك فير» أحد المحققين الذين شاركوا في عمليات الاستجواب في سجن أبو غريب، نشره عقب إصدار الكونجرس الأمريكي تقريره الأخير عن تورط الأجهزة الأمنية الأمريكية في التعذيب بزعم الحفاظ على الأمن القومي. ومع أن «فير» ترك الخدمة وأصبح مدرسا للكتابة الإبداعية بجامعة ليهاي، إلا أنه يحرص دائمًا على توثيق تجربته في المشاركة في انتهاك حقوق الإنسان، حيث يقول في مقاله الذي ترجمه الكاتب أحمد شافعي: إن تجربة سجن أبو غريب لا زالت تسيطر عليه «كل دقيقة في كل يوم من أيام حياتي.. لم أزل أسمع الأصوات، ولم أزل أرى الرجال الذين كنا نسميهم المعتقَلين»، لكنه أدرك أنها في نفس الوقت لا تعني شيئًا لطلابه، الذين ينتمون إلى جيل لا يعتبر نشر صور أبو غريب لحظة حاسمة في حياته، فهو ينتمي إلى زمن آخر لا يخصهم.
لم يتسامح «إريك فير» مع فكرة أن انتهاكات سجن أبو غريب التي شارك فيها يمكن أن يطويها النسيان، برغم أنه قام في السابق بكتابة مقالات في الجرائد، وإجراء حوارات تلفزيونية تعرض تفاصيل انتهاك المعتقَلين العراقيين، وأدلى بشهادته أمام منظمة العفو الدولية ومحققي وزارة العدل والمفوضية العسكرية للتحقيقات، لكنه لم يكتفِ بذلك، ولم يستسلم لإغراء أن يترك الأمر كله وراء ظهره، لعله يصبح شخصا يمكن أن يفتخر به ابنه، لذلك قرر أن يتطهر من أوزاره، بتشجيع طلبته على تعقب صور أبو غريب، وأطلعهم على ما كتبه من شهادات حول ما قام به، متحملا تشكيك البعض فيما يقوله، والذي قلَّت حدته بعد صدور تقرير الكونجرس عن التعذيب، برغم أنه يؤكد أن لغة التقرير خففت وقع الكثير من الممارسات الوحشية. ومع أن «فير» يعرف أن أغلب الأمريكيين لن يقرءوا التقرير ولا ما يكتبه، لكنه يرى أن وجود توثيق لتلك الجرائم سيبقى سببا، لتذكير أجيال متعاقبة من الأمريكيين ولو بالصدفة وبفضل مبادرات فردية، بأن بلدهم لم يكن دائمًا شيئًا يمكن الافتخار به.
حاشا لله أن أيأس من روح الله، فأجزم أن بلادنا عقمت عن إنجاب أمثال ذلك الموظف البرازيلي وذلك المحقق الأمريكي، وحاشاي وحاشاك أن نكون أغبياء فنعتمد على المعجزات وحدها في توثيق ما جرى أمام أعيننا من قتل وقمع وانتهاك لحقوق الإنسان، لأن بمقدور كل منا أن يبدأ بنفسه، فيقوم بتوثيق ما تحتويه ذاكرته من حكايات الضحايا ووجوه وأسماء القتلة والجلادين، وكل ما تحتويه ذاكرة موبايله أو كمبيوتره من صور وفيديوهات وشهادات، ليقوم بتبادلها مع من يثق به، ليكون كل ذلك نواة لذاكرة جماعية، ستحتاجها مصر حين تدرك أن مستقبلها لن يصنعه إلا تطهير ماضيها من الظلم، وعندها ستكون تلك الذاكرة طريقنا الأمثل لرد حقوق الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم من أجل بلد «أنضف».
...
- الرائع  بلال فضل.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات