هموم وأحزان في عيد الميلاد
توفيق بوعشرين
في مثل هذا اليوم صدر العدد الأول من هذه الجريدة قبل تسع سنوات، وكل أمل فريقه أن يشكل قيمة مضافة في مشهد صحافي «معطوب»، لكننا لم نكن نتصور أن هذا المنبر سيتعرض للقصف الشديد من قبل السلطة وبعض الأحزاب، وقلة من المنتسبين إلى مهنة أصبحت بلا حرمة ولا أخلاق ولا حتى حياء… حيث لا يمر يوم واحد دون أن تتقيأ في وجوهنا الصحافة الصفراء… لا لشيء سوى لأننا اخترنا طريقا غير الذي سلكته.
بعد أشهر من صدور هذه الجريدة، جاء قرار إغلاقها من قبل حكومة عباس الفاسي ووزير الداخلية آنذاك، شكيب بنموسى، بسبب رسم كاريكاتوري للأمير مولاي إسماعيل نشر بمناسبة زفافه، فحمل من المعاني ما لم نفكر فيه أبدا، وانتهت القصة بسنوات من السجن الموقوف التنفيذ، وغرامات باهظة، ورسالة تحذير أن راجعوا خط تحريركم في بلاد لا تحتمل صحافة بدون رقابة، وإعلاما بدون دفتر تحملات، وكلمة لا تراعي خصوصية البلد.
رجعنا للصدور رافضين التحذير، ومصرين على أداء مهمتنا باستقلالية عن مراكز القرار، وسلطة الإعلان، وشبكة رجال الأعمال، ورجعت خطة الحصار والضرب تحت الحزام من قبل أطراف في السلطة وجدت قضاء طيعا لينا يقوم بـ«الواجب»، في أغلب الأحيان، بمساعدة جزء من الجسم الميت في المهنة، أعار قلمه للسلطوية ليكون في خدمة أجندتها، انكشاريا يضرب حيث يؤمر، ويبتعد حيث يراد له أن يغادر مسرح العمليات.
ومازلنا نحاول كل صباح أن نقوم بمهمتنا في جمع الأخبار وترتيب الآراء، ومعالجة الأحداث بأقصى قدر من المهنية والتعددية والانفتاح، بانحياز واضح إلى قيم الديمقراطية والشفافية واحترام حقوق الإنسان والحكامة الجيدة… لما أطل الربيع المغربي، لم ننحز إلى خصومه كما فعلت جل المنابر الصحافية، وشجعنا تغييرا هادئا في ظل الاستقرار، ولما أطل بنكيران بلحيته شجعنا الموجة التي حملته على ظهر صناديق الاقتراع، على أمل أن تطبع الدولة مع الانتخابات الحرة والنزيهة، بغض النظر عن نتائجها. وعندما كان بنكيران وصحبه يصيبون، كنا نقول لهم أصبتم، وعندما كانوا يخطئون، كنا نقول له أخطأتم، وليست مفارقة أن جل الانتقادات العميقة التي كتبت حول اختيارات بنكيران السياسية، وحول تفريطه في الوثيقة الدستورية، وسكوته عن محاربة الفساد، جاءت من هذا المنبر الذي لم يكن بنكيران يحمل له الود دائما، بل وصل إلى درجة أن أعطى وزيريه في الفلاحة والمالية الضوء الأخضر لجرنا إلى المحاكم بسبب خبر صحيح نشرناه، عندما قام أخنوش وبوسعيد بتغيير الآمر بالصرف في صندوق التنمية القروية دون علم رئيسهما في قانون مالية 2016، بل إن السيد بنكيران وافق بصمته على استعمال الملياردير «الليبرالي جدا» سلاح الإعلان التابع لوزارته لمعاقبة هذه الجريدة، جهارا نهارا، حيث خرج مدير شركة «سوناكوس»، التابعة لوزارة الفلاحة، يتبجح بجريمة قطع الإعلانات عن «أخبار اليوم»، بمبرر أن خطنا التحريري لا يتفق مع خطة تسويق البذور لشركته! وكانت هذه من السوابق التي لم يجرؤ عليها من سبقوا أخنوش إلى المنصب، حتى في زمن سنوات الرصاص، أي الاعتراف العلني باستعمال سلاح الإشهار الحكومي لتطويع خطوط تحرير الجرائد، ومس أخلاقيات المهنة، وأخلاقيات وزير مسؤول عن احترام القانون، وظلت نقابة الصحافيين وفدرالية الناشرين تتفرجان على هذه السابقة.
وظيفة الصحافة اليوم، مكتوبة ومرئية ومسموعة، أن تكون رادارات مفتوحة الأعين على القرار السياسي بمختلف مجالاته الداخلية والخارجية، ترسل بثها إلى الجمهور الواسع من أجل حقه في المعلومة، وواجبه في أن يصير رأيا عاما يعرف ويختار ويحاسب ويقرر، وليس فقط يتابع ويتفرج ويتحسر في أفضل الأحوال.
الوظيفة الثانية للصحافة، مكتوبة ومرئية ومسموعة، أن تدافع عين القيم الإنسانية النبيلة، وفي مقدمتها الحرية والتعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأن تشكل المحامي الشرس للدفاع عن الإصلاحات في كل مجالات الفعل الإنساني، باعتبار الصحافة مهنة ورسالة، وسيلة ومضمونا، تقاليد وأعرافا… فالصحف نشأت في قلب الديمقراطيات الحديثة، ومن مسؤوليتها أن تبقى وفية لعقد ميلادها هذا، لا أن تصير خادمة في البلاطات، أو راقصة على كل لحن يخرج من بيوت الحكم.
الوظيفة الثالثة للصحافة، مكتوبة ومسموعة ومرئية، أن تفتح العقول على الفكر والعلم والأدب والفن وجديد العصر، وأن تشكل جسرا أو جسورا بين المتلقي وتطورات الحضارة، لا أن تكون وسائل لبث الحقد والكراهية والتحريض على العنف، ماديا كان أو رمزيا. بعبارة أخرى، الصحافة بجب أن تكون وسائل للتنوير وليست أدوات للتجهيل وخلط الأوراق، وإخفاء عورات الاستبداد، والانشغال بعاهات المجتمع وترك عاهات السلطة. الصحافة وجدت لتخدم المجتمع، لا لتلعق حذاء الحاكم، وتتمسح بفرو الأغنياء وتجار الريع.
هذه الأهداف الثلاثة لا تتحرك بانسيابية وسلاسة في بلادنا، وفي غيرها من البلدان التي مازالت تقف على أبواب الديمقراطية ولم تدخل بعد، بل إن وظيفة الصحافة تعترضها صعوبات وتعقيدات وإغراأت ومخاوف… وأولها أن السلطة يزعجها وجود صحافة تعري ولا تغطي، تفضح ولا تصمت، تخبر ولا تُمارس الدعاية، تتحرك دون اعتبار للخطوط الحمراء، وهكذا تنصب السلطة نفسها خصما للصحافة الحرة تستعمل أدوات عدة لقتل روح هذه المهنة، وأولها سلاح القضاء، وثانيها سلاح الإعلان، وثالثها سلاح القانون، لكن السلاح الأكثر فعالية تجاه الصحافة هو التدجين، وشراء مقاعد في هيئات التحرير، وإغراء النفوس الضعيفة.
في الخمس سنوات الأخيرة، شهد المشهد الصحافي نقلة نوعية في تسييس جل المنابر الصحافية، مقروءة ومسموعة ومرئية، حيث جرى عجنها لتشكيل جبهة تصدٍّ لعبد الإله بنكيران وحزبه، دون اعتبار للمهنية وللاستقلالية ولأخلاق المهنة، فصار المراقبون يعرفون ما سيكتب في هذه الصحف قبل صدورها، واختفت الفروق بين خطوط تحرير هذه الجبهة الإعلامية وكأنها تغمس في المحبرة نفسها، وتكتب بالقلم ذاته، فصرنا أمام صحافة تعارض الحكومة وتوالي الحكم، تتهجم على السياسيين، الذين لا يملكون 10٪ من القرار، وتسكت عن السلطة التي تتحكم في 90% من مصير البلاد والعباد… لقد جرى استيراد النموذج المصري القبيح في تسخير وسائل الإعلام لتشكيل آلة لصناعة الكذب والمس بالحياة الخاصة، وجعل تقارير الأجهزة مواد صحافية للاستهلاك اليومي… أملي ألا نصل إلى تلك النبوءة التي قالها الحسن الثاني يوما، عندما ضاق ذرعا بصحافة المعارضة، فقال إن هذه الصحف ليس فيها إلا معلومتان صحيحتان، تاريخ الصدور وثمن البيع… إلى اللقاء.
02/03/2017
0 تعليقات
أكتب لتعليق